إيلاف - 11/13/2025 1:46:07 AM - GMT (+3 )

منذ أكثر من أربعة عقود، في إمارة صغيرة على ضفاف الخليج العربي، وُلد حلمٌ ثقافيّ تحوّل إلى واحدة من أوسع التظاهرات الفكرية في العالم. إنّه معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي لم يعد مجرّد مهرجان للقراءة، بل صار رمزاً لإنقاذ الكلمة العربية من العزلة، وجسراً نحو إنسانية تتوحّد بالمعرفة وتلتقي في فضاء واحد مهما اختلفت لغاتها وألوانها.
حين أطلق الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي فكرته عام 1982، لم يكن يسعى إلى حدثٍ تجاري أو بروتوكولي؛ بل إلى نهضةٍ ثقافية تُعيد للكتاب هيبته، وتمنح الشارقة هوية تتجاوز العمران إلى الفكر. ومنذ ذلك التاريخ، راحت هذه الإمارة تتقدّم في هدوء، حتى غدت اليوم عاصمة الكتاب العربية والعالمية بامتياز.
لقد أراد القاسمي للشارقة أن تكون بيتاً للثقافة، فأسّس منظومة فريدة تضم هيئة الشارقة للكتاب، ومدينة الشارقة للنشر، وجائزة الشارقة للإبداع العربي، ومؤسسات أخرى تحرس الكلمة وتحتضن المبدعين. ولم يكن غريباً أن تختارها اليونسكو عام 2019 "عاصمةً عالميةً للكتاب"، في اعتراف دولي نادر بعُمق المشروع الثقافي الإماراتي.
أرقام تنطق بلغة الحلم
اليوم، ومع حلول الدورة الرابعة والأربعين (2025)، يشارك في المعرض أكثر من 2300 دار نشر من أكثر من 118 دولة، ويقدّم ما يزيد على 1.5 مليون عنوان كتاب بعدّة لغات، ويستقبل أكثر من مليوني زائر سنوياً، في مشهدٍ قلّ نظيره في العالم العربي.
وتُقام خلال أيامه الاثني عشر ما يفوق 1200 فعالية ثقافية وفنية وإبداعية، تشمل الندوات الفكرية، وورش الترجمة والكتابة، وجلسات التوقيع، والحوارات الأدبية العابرة للحدود. أما ضيف الشرف لهذا العام فهو اليونان، في إشارة إلى عمق التبادل الحضاري بين الشرق والغرب، وإلى إيمان الشارقة بأن المعرفة لا تعرف جغرافيا ولا حدوداً.
هذه الأرقام ليست للتفاخر، بل لتأكيد أن المعرض تجاوز كونه «الأكبر عربياً» ليصبح أحد أكبر ثلاثة معارض كتب في العالم، إلى جانب فرانكفورت ولندن.
بل إنه نال عام 2022 جائزة أفضل معرض كتاب في العالم ضمن جوائز «London Book Fair Awards»، وهو إنجاز موثق لم يسبق له مثيل عربياً، ما جعل من الشارقة وجهةً لكلّ من يرى في الكتاب طريقاً إلى المستقبل.
فكرة تحوّلت إلى رسالة إنسانية
لم يكن نجاح المعرض صدفةً ولا وليد ميزانيةٍ ضخمة فحسب، بل ثمرة رؤية ثقافية شاملة وضع أسسها حاكم الشارقة، المثقف والمؤلف والمسرحي والمؤرخ.
فهو يدرك أن الكتاب ليس سلعة، بل كائن حيّ، وأن اللغة العربية هي وعاء الفكر وروح الأمة. لذلك، فإن المعرض في جوهره دعوة إلى أن تعود العربية إلى مكانها بين لغات العالم الكبرى، لا لغةً ماضوية بل لغةً قادرة على الحوار والإبداع.
ومن يتجوّل بين أجنحة المعرض، يرى كيف تلتقي العربية بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية، وكيف تتجاور كتب التراث مع أحدث ما أنتجته مطابع التكنولوجيا. إنه مشهد حيّ لتفاعل الحضارات لا لصدامها، ولميلادٍ جديد للإنسان العربي في رحاب العالم.
تأثيره على الناشرين العرب وحركة الترجمة
إلى جانب دوره الجماهيري المدهش، يُعدّ المعرض فرصةً ذهبية للناشرين العرب في التواصل مع نظرائهم الأجانب، وعقد صفقات توزيع وترجمة.
ففي كل دورة، تشهد «منطقة حقوق النشر» في المعرض عشرات الاجتماعات بين وكلاء الأدب والمترجمين ودور النشر، ما يسهم في نقل الأدب العربي إلى لغات العالم، ويمنح الكتاب العربي حياة جديدة خارج حدوده التقليدية.
وقد استفاد مئات الناشرين من منحة الترجمة التي تقدمها هيئة الشارقة للكتاب، والتي تهدف إلى دعم ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية والعكس، مما جعل الشارقة جسراً حقيقياً بين الحضارات.
كما تحرص الهيئة على تدريب الكتّاب الشباب والناشرين الجدد عبر «أكاديمية الشارقة للنشر» وبرامج التسويق الثقافي، ليصبحوا أكثر قدرة على مواكبة التطورات التقنية في عالم النشر الرقمي.
هذا البُعد المهني يجعل المعرض ليس فقط ساحةً للعرض، بل مؤسسة ثقافية متكاملة تعيد تعريف العلاقة بين الكاتب والناشر والقارئ، وتفتح الباب أمام نموذج اقتصادي جديد للثقافة العربية يقوم على الجودة لا الكمّ، وعلى الشراكة لا التبعية.
اللغة العربية... الاسم الذي يستحقه المعرض
ولأن هذا الحدث تجاوز الإطار المحلي والإقليمي، أجدني أرى — ككاتب عربي — أن الوقت حان لأن يُعلَن معرض الشارقة الدولي للكتاب معرضاً عالمياً للغة العربية.
ليس لأن العربية بحاجة إلى حماية رمزية، بل لأنها تستحق أن تُقدَّم إلى العالم بوصفها لغة حضارةٍ وثقافةٍ مستمرة منذ أكثر من ألف عام.
إن ما يفعله المعرض من جمعٍ بين الشرق والغرب، ومن احتضانٍ لعناوين الفكر العالمي، ومن حوارٍ بين اللغات والأديان، يجعله مؤهلاً لأن يحمل راية اللغة التي أنجبت الفارابي وابن رشد وجبران وسعاد الصباح وجمال الغيطاني، وألهمت الشعراء من الأندلس إلى بيروت.
أن يُصبح المعرض عالمياً باسم اللغة العربية، يعني أن نمنحه هويةً أوسع من الجغرافيا، وأن نعلن أن اللغة العربية ليست ملكاً للعرب وحدهم، بل إرثٌ إنسانيّ مشترك، مثلما تُعتبر اللاتينية واليونانية إرثاً عالمياً.
ولعلّ أجمل تكريم للشيخ سلطان القاسمي أن يُرى مشروعه الثقافي وقد تحوّل من فكرةٍ وطنية إلى مؤسسة إنسانية تُعيد الاعتبار للغة التي حملت أنوار الحضارة إلى العالم.
بين الحاضر والمستقبل
الشارقة اليوم ليست فقط مدينةً للثقافة، بل مدرسة في كيف يمكن للقيادة أن تصنع وعياً جمعياً بالكتاب.
في كل دورة، ترى الأطفال يلتقطون الصور مع الكتّاب، والطلاب يحملون حقائبهم المليئة بالكتب الجديدة، والعائلات تتجوّل بين الأجنحة كما لو أنها تدخل عالماً من الحكايات.
هذه المشاهد، أكثر من الأرقام، هي التي تمنح المعرض روحه الحقيقية: روح الأمل.
فالكتاب في الشارقة ليس ترفاً ولا زينة، بل حياة تُمارس على الأرض.
كلمة أخيرة
لقد أثبت معرض الشارقة الدولي للكتاب أن الثقافة يمكن أن تكون مشروع دولة، وأن الكتاب لا يموت ما دام يجد من يحمله بشغف.
ومن هنا، فإن ترشيح هذا المعرض لأن يكون المعرض العالمي للغة العربية ليس اقتراحاً بل استحقاقاً.
إنه تكريم لجهدٍ امتدّ لأكثر من أربعين عاماً، وتأكيد أن الإمارات، من خلال الشارقة، استطاعت أن تصنع من الحرف العربي جناحاً يطير به نحو الإنسانية جمعاء.
الكتاب في الشارقة لا يُباع فحسب، بل يُولَد من جديد، ومعه تولد ثقة العرب بأن الكلمة لا تزال أقوى من كل ما يُراد بها من صمتٍ ونسيان.
إقرأ المزيد


