س-ن-ن بالعربية - 6/9/2025 10:34:05 AM - GMT (+3 )

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- شكلّ وباء الطاعون الملقّب بـ"الموت الأسود" أحلك مراحل تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، إذ تسبّب بمقتل ما لا يقل عن 25 مليون شخص خلال خمس سنوات فقط. لكنّ هذا المرض لم يتوقّف عند هذا الحد.
تكيّف الطاعون بطريقة مكّنته من إبقاء مضيفيه على قيد الحياة لفترة أطول، حتى يتمكن من الانتشار على نطاق أوسع، ومواصلة إصابة البشر على مدى قرون. وتمكّن الباحثون من اكتشاف الأمر راهنًا.
هذا المرض تسبّبه بكتيريا اسمها العلمي Yersinia pestis، تنتشر بين البشر منذ ما لا يقل عن 5,000 عام. وقد تسبّبت بثلاثة أوبئة رئيسية منذ القرن الأول الميلادي. رغم أن أكثر سنوات الطاعون فتكًا أصبحت من الماضي، فإن المرض لم يختفِ تمامًا.
وفقًا لعيادة كليفلاند، لا تزال حالات الطاعون تُسجَّل سنويًا في آسيا، وأمريكا الجنوبية، والولايات المتحدة، بينما تتزايد في بعض مناطق إفريقيا.
قد يهمك أيضاً
كشف تحليل حديث لعينات قديمة وحديثة من هذه البكتيريا كيفية استمرار الطاعون في إصابة البشر على مدى قرون بعد انحسار موجات الأوبئة الكبرى.
ذكرت الدراسة المنشورة في مجلة Science، أنه بعد فترة أولى اتّسمت بارتفاع معدلات العدوى والوفيات السريعة، اكتشف الباحثون أنّ تغيرًا في جين واحد فقط داخل البكتيريا أدى إلى ظهور سلالات جديدة كانت أقل فتكًا وأكثر قدرة على الانتقال، ما سمح للمرض بالاستمرار في الانتشار بين البشر لفترات طويلة، من دون أن يختفي.
سلالة الطاعون السائدة اليومأفاد مؤلفو الدراسة أن السلالات الأضعف من بكتيريا Yersinia pestis قد انقرضت، في حين أن السلالة السائدة اليوم هي النسخة الأشد فتكًا. لذا يوفّر فهم كيفية تكيّف الطاعون في الماضي أدلة مهمة تساعد العلماء والأطباء على التعامل مع تفشيات الطاعون الحديثة بطريقة أكثر فاعلية.
يُعرف الشكل الأكثر شيوعًا بالطاعون الدبلي (Bubonic plague)، ويُسبب تورمًا مؤلمًا في العقد اللمفاوية، وينتقل بين البشر عبر لدغات البراغيث التي تعيش على الفئران المصابة.
- الموجة الأولى: أقدم تفشٍّ موثّق للطاعون الدبلي هو ما يُعرف بـ"طاعون جستنيان" الذي بدأ في حوض البحر الأبيض المتوسط بين عامين 541 و544 ميلادي.
- الموجة الثانية: بين عامي 1347 و1352، حين اجتاح طاعون دبلي، المعروف باسم "الموت الأسود"، أوروبا وقتل ما بين 30 و50% من سكان القارة.
- الموجة الثالثة: اجتاحت الصين في خمسينيات القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها مع وباء كبير في عام 1894.
يرى العلماء أن الحالات الحديثة من الطاعون تُعد امتدادًا للجائحة الثالثة.
قد يهمك أيضاً
في هذه الدراسة الحديثة، جمع العلماء عينات قديمة من بكتيريا Y. pestis من رفات بشرية تعود إلى نحو 100 عام بعد ظهور الوباءين الأول والثاني، من الدنمارك، وأوروبا، وروسيا، ثم أعادوا بناء الجينومات الكاملة لهذه السلالات القديمة، وقارنوها بسلالات أقدم تعود إلى بدايات موجات الطاعون، ما مكّنهم من تتبّع التغيّرات الجينية التي سمحت للبكتيريا بالتكيّف والبقاء عبر العصور.
فحص الباحثون أيضًا أكثر من 2,700 جينوم من عينات الطاعون الحديثة المأخوذة من آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الشمالية والجنوبية.
وكانت جينيفر كلانك، إحدى المشاركات في إعداد الدراسة، وهي عالمة منتجات في شركة "Daciel Arbor Biosciences" للتقنيات الحيوية التي تأخذ من ولاية ميشيغان الأمريكية مقرًا لها، والتي زوّدت الباحثين بجزيئات صناعية استخدمت في التجارب، من دون أي مكاسب مالية مرتبطة بالدراسة.
ووجد الباحثون أن الجينومات التي أعادوا تركيبها من سلالات الطاعون التي ظهرت بعد نحو 100 عام من بداية الجائحتين الأولى والثانية، كانت تحتوي على عدد أقل من نسخ جين يُعرف باسم pla.
بحسب رافنيت سيدهو، المؤلفة المشاركة في الدراسة وطالبة الدكتوراه بمركز الحمض النووي القديم في جامعة ماكماستر بأونتاريو، كندا، فإن جين pla معروف منذ عقود بأنه أحد العوامل الأساسية التي جعلت الطاعون مرضًا بالغ الفتك.
هذا الانخفاض في عدد نسخ الجين قد يكون السبب بجعل بعض السلالات أقل فتكًا لكن أكثر قدرة على الانتقال، الأمر الذي ساعد البكتيريا على البقاء والاستمرار في الانتشار بين البشر لفترة أطول.
قالت سيدهو لـCNN، إن جين pla يقوم بترميز إنزيم يتفاعل مع بروتينات الجسم المضيف، وتتمثل أبرز وظائفه بتفكيك جلطات الدم. وهذه القدرة تُمكِّن بكتيريا Yersinia pestis من الانتقال إلى العقد اللمفاوية للمضيف، حيث تتكاثر قبل أن تهاجم باقي الجسم.
وأضافت: "ليست كل وظائف هذا الجين معروفة"، لكن دراسات سابقة أجراها باحثون آخرون ربطت بين جين pla وشدة المرض الناتج عن الطاعون الدبلي وكذلك الطاعون الرئوي، وهو أحد أشكال المرض المنتقل عبر الهواء، والذي يصيب الرئتين.
رغم أنّ السلالات التي أعاد العلماء تركيبها أظهرت عددًا أقل من نسخ جين pla، لم يكن واضحًا بداية إذا ما كان ذلك سيؤثر مباشرة على درجة فتك المرض. لذلك، أجرى الفريق تجارب على الفئران باستخدام سلالات من الطاعون الدبلي تحتوي على كمية منخفضة من جين pla.
وظهرت النتائج كالآتي:
- معدلات البقاء على قيد الحياة زادت بنسبة تتراوح بين 10 و20% لدى الفئران المصابة بالسلالة منخفضة الجين مقارنةً بتلك المصابة بالبكتيريا ذات المعدل الطبيعي من pla.
- استغرقت السلالة المُعاد تركيبها يومين إضافيين لقتل العائل مقارنة بالسلالة القياسية.
تشير هذه النتائج إلى أن انخفاض عدد نسخ جين pla ربما شكّل عاملاً مهمًا كي يصير الطاعون أقل فتكًا، لكن منحه قدرة أكبر على الاستمرار والانتشار، ما يفسر كيف تمكن من البقاء بين البشر لقرون بعد انحسار موجات الجائحة الأولى.
وقالت الدكتورة ديبورا أندرسون، أستاذة علم الأمراض البيطرية بكلية الطب البيطري في جامعة ميزوري، إن الدراسة تُقدّم حجة قوية بأن انخفاض، وليس فقدانًا تامًا، في إنزيم Pla (الذي يُنتجه جين pla) كان جزءًا من تطور العامل المسبب للطاعون، ما قد يساعد على تفسير تراجع الطاعون خلال الوباء الثاني المعروف بالموت الأسود.
تُجري أندرسون، غير المشاركة في البحث الجديد، أبحاثًا عن حدة الطاعون وانتشاره، وذكرت لـCNN أن هذه النتائج قد تُلقي الضوء على أنماط انتقال الطاعون في الحالات الحديثة.
قد يهمك أيضاً
أوضحت أندرسون أنّ "مختبرنا يدرس دورة انتشار الطاعون بين البراغيث والقوارض، ونعمل مع باحثين ميدانيين في مناطق تشهد تفشيات سنوية أو عرضية للطاعون في الطبيعة"، مضيفة أنّ "هناك نحو 300 نوع من القوارض يمكنها نقل Yersinia pestis، واليوم تُعتبر القوارض التي تحفر جحورًا، مثل كلاب البراري أو السناجب الأرضية، من الحيوانات المضيفة الرئيسية التي تُعاني من تفشيات هذا المرض".
وخلصت بالقول: "بعد قراءتنا لهذه الدراسة، سنُولي جين Pla اهتمامًا أكبر مستقبلًا، لنرى ما إذا كان يواصل لعب دور في تفشي الطاعون المفاجئ داخل التجمعات الحيوانية".
"احتراق وبائي"تشير النماذج الرياضية إلى سيناريو يُفسر ما حدث قبل قرون: في المراحل الأولى من الوباء، كانت العدوى سريعة، والموت يحدث بسرعة للجرذان والبشر على حد سواء. لكن مع انخفاض أعداد الجرذان في البيئات المكتظة، ظهرت ضغوط انتقائية لصالح سلالات أقل فتكًا من البكتيريا، كانت تمنح الجرذان وقتًا أطول لحمل العدوى، ما مكنها من نقل المرض إلى مزيد من الجرذان والبشر على حد سواء.
قد يهمك أيضاً
أدت هذه الديناميكية إلى نوع من "الاحتراق الوبائي"، يفقد المرض بموجبه قدرته على التفشي الواسع مع الوقت، وينقرض تدريجيًا.
سلالات الطاعون الأضعفلفتت سيدهو إلى أنهم تمكّنوا "من إجراء دراسة رائعة تجمع بين البيانات الحديثة والقديمة، ودمج هذه العناصر لفهم ما حدث خلال التاريخ التطوري الطويل للطاعون"، موضحة أّنه من المثير للاهتمام أن نرى كيف سيواصل الباحثون مستقبلًا سد الفجوة بين الجائحة الثالثة الحديثة والوباءين القديمين الأول والثاني، بهدف اكتشاف تشابهات أخرى، مشيرة إلى أن ثمة أمراض القديمة لا يُوجد عنها بيانات بهذا الحجم والدقة، مثلما يُوجد عن بكتيريا Yersinia pestis.
لماذا الطاعون مهم لفهم الأوبئة الحديثة؟قالت سيدهو إن أحد الجوانب غير المعتادة في أوبئة الطاعون، يتمثل بقدرتها على الاستمرار والبقاء لقرون.
أما فهم كيفية تغيّر أنماط العدوى وتكيّف Y. pestis عبر الزمن يمكن أن يساعد في فهم كيف تتكيف الأوبئة الحديثة، مثل "كوفيد-19"، على البقاء والانتشار.
إقرأ المزيد