إيلاف - 4/21/2025 5:29:05 PM - GMT (+3 )

إيلاف من الرباط: أجمعت كلمات المتدخلين خلال حفل تكريمي، الأحد، تحت عنوان "بصمات في اتجاه الخلد تكريما لمحمد بن عيسى"، في إطار فعاليات الدورة الثلاثين لمعرض الكتاب في الرباط، على قيمة ومنجز "السي بن عيسى"، الوزير والدبلوماسي الكبير، الذي كرس حياته للشأن الثقافي، فتفرغ له بقلبه ووجدانه، رغم شغله لمسؤوليات دبلوماسية ووزارية وبرلمانية وبلدية، بينما تنتظم المهمات التي أداها بتفان وجدارة ونكران للذات في خيط رفيع اسمه "رجل الدولة المحنك"، الذي عرّف بالتنوع الثقافي المغربي وتراثه الرمزي في المحافل الدولية، وارتقى بمدينته الصغيرة، أصيلة إلى منارة ثقافية ذائعة الصيت، وقبلة لشخصيات فكرية وعلمية وثقافية من مناطق متفرقة عبر العالم.
وشددوا على ضرورة المحافظة على الإرث الزاخِر الذي تركه بن عيسى، واستكمال خطواته على درب الإشعاع الثقافي لأصيلة والمغرب، مشددين على أن اسم بن عيسى سيبقى محفورا في الأعماق، وفي سجلات الذاكرة الثقافية للمغرب، إلى الأبَد.
رمز وعلم منير
قال محمد المهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل المغربي ، إن بن عيسى، هو "رمز بارِز من رموز الثقافة والفكر، وعَلَم مُنير مِن أعلام التدبير العمومي والسياسة ببلادنا".
وشدد بنسعيد، في كلمة ألقاها بالنيابة عنه، صلاح الدين عبقري، الكاتب العام ( وكيل)بالنيابة لقطاع الثقافة، على أن المغرب والفضاء المتوسطي ودول الجنوب فقدوا برحيله شعلة مضيئة في سماء الدبلوماسية والثقافة والفكر والحوار. وتساءل: "ماذا عساها تقول الكلمات عن رجل فريد، إن في خصاله الإنسانية الرفيعة أو في رصيده المترامي الأطراف من جليل الأعمال وعمق المبادرات التي نقشت اسما بارزا في الوجود والوجدان؟". وأضاف: "سنظل مدينين له بفضل عظيم، فقد كان فاعلا في مسرح الأحداث منذ تميزه في حَقْل الإعلام داخل مُنظمات دولية إلى أن وافته المَنية. وبِجودَة عَمَلِه على المستوى المحلي والدولي نال الثقة الملكية وتقلد حقيبة الثقافة لسنوات بكل كفاءة واقتدار، وما زال رصيده التدبيري إلى اليوم، يذكر ضِمن الأعمدة البارزة للصرح الثقافي للمملكة، ومنها المعرض الدولي للنشر والكتاب، بل إن حضوره ظل وَهَّاجا في التدبير الثقافي من خلال الروابط والشراكات والتنسيق الذي لم يتوقف يوما، مع حرص وإصرار منه على النهوض بالحقل الثقافي بالبلاد، إدراكا منه لمركزية الثقافة في كل تدبير مجتمعي ينشد النماء والازدهار".
وأضاف بنسعيد أن بن عيسى، ومن الثقافة التي تحتاج إلى مَلَكات فكرية جامعة تَوَفَّرت لديه بلا مُنازع، قد ولج سماء الدبلوماسية بِحِنْكة نادرة، سواء كسفير بالولايات المتحدة أو كوزير للخارجية، في ظرفية مثقلة بصراعات جيو-سياسية، قام بتدبيرها بحنكة رجال الدولة الكبار. وأضاف: "ولإن تقلد هذه المهام الجسام في العاصمة الرباط وخارج أرض الوطن، بكل حضور واقتدار، فإنه ظل في أبلغ الوفاء لبلدته، أصيلة التي نقلها من السكون إلى مسرح الحدث العالمي البارز، فقد تواجد داخل العمل السياسي النبيل لفائدة بنات وأبناء بلدته، وتواجد أيضا داخل الحقل الثقافي الشامخ من خلال موسم أصيلة الثقافي الدولي، الذي يجمع كل سنة، تحت الرعاية الملكية، شخصيات بارزة من عالم الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والأعمال من مُختلف بُلدان المعمور، لِمُقارَبَة الأسئلة الحارِقة لِعالَم اليوم واقتراح الحلول البديلة لتحديات البيئة والمناخ والسياسة في ساحة دولية تَحُفُّها المخاطر من كل الجهات".
ورأى بنسعيد أن تحول مدينة صغيرة بِحجم أصيلة، إلى فضاء لِمُنْتَدى دولي كبير يجمع شخصيات عالمية بارزة من عالم الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والحُكم، مفارقَة تَحتاج إلى شخصية اسمها محمد بن عيسى لتستقيم. وأضاف أن الراحل أعطى للعمل الجمعوي المفهوم المتماهي مَع خَلْق الثروات، فكانت التجهيزات الثقافية التي ساهم في إحداثها بالمدينة، والتي تظل راسخة في سجل المنجزات التي ستجني ثمارها الأجيال الحاضرة والقادمة.
وشدد الوزير بنسعيد على أن التكريم الذي يُضاف إلى رصيد الاحتفاء والتتويج الذي ناله الراحل قَيْد حياته، مناسبة لاستحضار كل التراكم الفريد الذي يُذْكَر مقرونا باسم بن عيسى، ليس رَدّا للجميل، بل تكريما للإخلاص والإبداع والعمل الصالح، ووفاء لأرواح أصحابها وعرفانا بِنبل العطاء، مع استحضار قِيم القُدوة والمِثال كحافز للأجيال، بِما تَرْمُز إليه من خُلود صالح الأعمال.
ديْن ووصية بن عيسى
تحدث محمد الأشعري، الأديب والوزير السابق في الثقافة، في مفتتح كلمته، عن المعرض الدولي للنشر والكتاب، وقال "إننا جميعا مدينون لبن عيسى الذي كان وراء تأسيسه سنة 1987".
واستحضر الأشعري سياق إطلاق معرض الكتاب، وقال إنه لا أحد كان يجرؤ في تلك الفترة من تاريخ المغرب على تنظيم معرض دولي للنشر والكتاب، من منطلق أن صناعة الكتاب كانت محدودة جدا، وكان المغاربة ينتجون أقل من 10 روايات في السنة، مثلا؛وقس على ذلك باقي الاختيارات الأدبية والفكرية؛ كما كانت سوق الكتاب محدودة وشبكة الكتبيين محدودة أيضا، فيما كانت دور النشر مبادرات خاصة، ولم تكن صناعات بالمعنى الدقيق للكلمة. ومع ذلك، يضيف الأشعري، سعى بن عيسى إلى تقديم معرض دولي للكتاب.
وتحدث الأشعري عن بعض العلامات الدالة على عقلية بن عيسى ونظرته إلى المجال الثقافي، مشيرا إلى أنه رجل جريء يستبق التطورات التي يمكن أن تحدث في العالم الثقافي ويغامر بالدخول في مهمة الإعداد والتنشيط والتحضير حتى بدون إمكانيات كبيرة، لأنه في شخصه وفي عقله وفي قلبه، كان رجل مراهنة على المستقبل.
وأضاف الأشعري أن الاحتفاء بذاكرة بن عيسى تعني أن نقف عند أهم الأشياء التي يمكن اعتبارها وصية بن عيسى، أولها الكتاب الذي ظل عنصرا حيويا في تفكيره ومشاريعه.
كما أشار الأشعري إلى أن بن عيسى هو صاحب مشروع عظيم، هو مشروع أصيلة الثقافي، مشيرا إلى أنه طور أشياء كثيرة في أصيلة، أهمها الندوات الثقافية والحوار جنوب - جنوب، والجوائز الأدبية التي تحمل أسماء أدباء كبار: محمد زفزاف ، وبلند الحيدري وتشيكايا أوتامسي، والندوات واللقاءات والاهتمامات الفنية، فضلا عن بؤرة الفنون التشكيلية التي قام فيها بعمل جبار لا يمكن المرور عليه مرور الكرام.
ودعا الأشعري، في هذا السياق، إلى تأسيس متحف يحمل اسم بن عيسى، لإيواء الأعمال الفنية التي تراكمت، والتي قال إنه يتعين في هذا المتحف وفي أصيلة.
بن عيسى.. المعلم والمربي
تحدث الكاتب الصحفي حاتم البطيوي، الذي انتخب خلفا لبن عيسى على رأس مؤسسة منتدى أصيلة، عن علاقته بالراحل، مشير إلى أنه رافقه عن بعد، كأحد أطفال أصيلة الذين كبروا في كنف موسمها الثقافي، ووجدوا ضالتهم في مرسم الأطفال بقصر الثقافة، كما رافقه عن قرب مع توالي الأيام والسنين. وأضاف: "أمام كل ذلك،ظل السي بن عيسى بالنسبة لي، ولباقي زملائي ورفاقي في جمعية المحيط، التي أصبحت لاحقًا مؤسسة منتدى أصيلة، شخصًا متعدد الأبعاد والمزايا: فهو المثقف، والسياسي، والدبلوماسي، والفنان، والمرشد، والمعلم، والمربّي… وقبل كل شيء، هو الإنسان، الذي تلتقط منذ الوهلة الأولى إنسانيته الفذّة".
وقال البطيوي إن بن عيسى غادرنا إلى دار البقاء، لكن إرثه وأفكاره ورؤاه ستظل تلازمنا مدى الحياة، بل ستظل مصدر إلهام لنا وللأجيال القادمة. وشدد على أن ما قام به الفقيد في أصيلة على امتداد أكثر من 45 سنة، هو، في نهاية المطاف، إنجاز يصب في خدمة الإنسان. ومن ثم، فإن البعد الإنساني، إلى جانب البعدين الثقافي والسياسي-الدبلوماسي، كانا الأساس في مسيرته المتميزة.
وأضاف البطيوي أن بن عيسى راهن، منذ انطلاقة مشروعه الثقافي والتنموي في أصيلة، على الطفل باعتباره عماد المستقبل، وحرص على أن ينشأ هذا الطفل في بيئة نظيفة، تُلهمه الإبداع، وتمكّنه من النظر إلى العالم بروح إيجابية، مفعمة بالجمال والفن. ومن هنا جاءت فكرة إنجاز الجداريات الفنية في أزقة المدينة العتيقة. وكان يقول: "إذا كانت بيئة الطفل سليمة، فإن عقله سيكون سليمًا لا محالة".
وأضاف البطيوي أن بن عيسى كان معروفًا بسعة صدره وانفتاحه على الجميع، وكان ديدنه النضال والعمل والبناء من أجل مدينته التي بذل من أجلها الغالي والنفيس، فشيّد فيها كل ما هو جميل، وانتشلها من الهامش والتهميش، لتصبح شمسًا تُشِع في سماء المغرب والعالم العربي. وشدد البطيوي على أن من يعود بذاكرته إلى ما قبل سنة 1978، سيدرك حجم التحوّل الذي شهدته أصيلة، وحجم المنجزات التي تحقّقت فيها بالصبر والأناة؛ورأى أن هذا أمر لا ينكره إلا جاحد.
وأشار البطيوي إلى أن بن عيسى، حين أطلق مشروعه الثقافي، رفع شعار "الثقافة من أجل التنمية"؛ لكن البعض استصغرالفكرة، واعتبرها بعضهم ضربًا من الخيال أو الجنون؛ لكنهم نسوا أن شيئًا من الجنون، أو كثيرًا منه، هو ما يصنع التاريخ. وقد استطاع بن عيسى أن يرسّخ هذا المشروع في الواقع، وفي ذاكرة التاريخ.
وقال البطيوي إن مسيرة بن عيسى في "مشروع أصيلة" لم تكن سهلة؛ بل واجه صعوبات كثيرة، قال إنه عايشها عن بعد في البداية، ثم عن قرب، بحكم العلاقة الروحية التي جمعته به. لكنالراحل، بعزيمته وصبره وتسامحه، استطاع تجاوزها جميعًا.
وتحدث البطيوي عن الملك الراحل الحسن الثاني، وقال إننا لا يمكن أن نغفل، هنا، الدور الكبير الذي لعبه في دعم مشروع أصيلة، حيث استشرف بفراسته ما كان بن عيسى يطمح إليه، فسمح لولي عهده، الأمير سيدي محمد آنذاك، بأن يكون رئيسًا شرفيًا لموسم أصيلة منذ بداياته. واستمر هذا الدعم في عهد الملك محمد السادس، الذي زار أصيلة سنة 1978، وهو في الخامسة عشرة من عمره، خلال الدورة الأولى من الموسم الثقافي، واطّلع على أوراش الفنون في قصر الثقافة. ومنذ ذلك الحين، ظل عطفه ورعايته ملازمين للمدينة.
وخلص البطيوي إلى أن بن عيسى خدم مدينته بدعم ملكي متواصل، وكان يحمل في جعبته أفكارًا وأحلامًا كثيرة، أراد تحقيقها، لكن مشيئة الله كانت أسبق. وأضاف أن الراحل ظل حتى آخر لحظاته يلهج باسم محبوبته "أصيلة"، تاركًا وصايا كثيرة بشأنها. وها هي أصيلة اليوم تقف على مفترق طرق: فإما أن تكون أو لا تكون. واستمراريتها مسؤولية جماعية، تتطلب عناية استثنائية.
وعبر البطيوي عن أمله في أن تحظى هذه المدينة الصغيرة بدعم خاص من وزارة الثقافة، حفاظًا على روح المدينة، وإشعاعها الممتد إلى مختلف الآفاق، وصورتها المشرقة عن المغرب المتعدد والمنفتح والواعد.
خير خلف لخير سلف
إثر ذلك، قرأ الأديب أحمد المديني نصا شعريا، استعرض فيه مشاعره نحو بن عيسى وطبيعة العلاقة التي جمعته بـ"فارس كل الحلبات"، الذي قال عنه: "كان أخي وأستاذي وصديقي الذي لن أنساه".
أما الأديب مبارك ربيع، الذي سير اللقاء باقتدار، فشدد على أن بن عيسى هو نموذج يحتذى به ويستلهم منه، وأنه كان يمثل فكر مهندس ثقافي حقيقي، استطاع أن يبرهن بالمحسوس، لا النظري، على أن الثقافة رافعة تنمية حقيقية للإنسان، لكي يرى نفسه فنانا ومنتجا للمعرفة أو طالبا لها، فضلا عن ترقية الزمان والمكان والبيئة المحلية ليصبح كل ذلك المجال ثقافيا بامتياز.
وتحدث ربيع عن علاقته ببن عيسى، وقال إن ما كان يشده إلى شخصية الراحل هدوءه وبسمته في خضم التعب التنظيمي، وهو شيء ظل يستمده من رحابة صدره وطمأنينته لمشروعه، ومن فراسته وحسن اختياره للمحيطين به، الذين كان بينهم البطيوي، الذي أجمعت كلمات المتدخلين على دعمه في مهمته خلفا للراحل، معبرين عن إيمانهم بقدرته على أن يكون خير خلف لخير سلف، على رأس مؤسسة منتدى أصيلة.
إقرأ المزيد