إيلاف - 12/29/2025 11:43:34 PM - GMT (+3 )
علي عبيد الهاملي
ليس في تفجير مسجد أي منطق يمكن الدفاع عنه، ولا أي ذريعة يمكن تلميعها، ولا أي قضية يمكن الاحتماء بها. من يفجر مكان عبادة لا يعبر عن غضب ولا عن احتجاج، بل يعلن إفلاسه الأخلاقي الكامل، ويوقّع باسمه، أو بلا اسم، على شهادة خروجه من كل القيم التي يمكن أن يكون قد ادعى يوماً الانتماء إليها.
المسجد، كما الكنيسة، كما المعبد، كما أي مكان عبادة، ليس حجراً ولا جدراناً، بل ذاكرة جماعية، وملاذ ضعف، ومساحة يقف فيها الإنسان عارياً من كل سلاح إلا سلاح الرجاء. حين يُفجَّر مكان عبادة، لا يُستهدف خصم سياسي، ولا نظام، ولا فصيل، بل يُستهدف الإنسان في أضعف حالاته، وهو يصلي، أو يطلب السكينة، أو يلوذ بما تبقى له من إيمان في عالم فقد معظم إيمانه.
مدينة حمص ليست مجرد نقطة على خريطة الصراع، بل مدينة مثقلة بكثير من الدروس العظيمة، عرفت التعايش قبل أن تتعلم المفردات الطائفية، وعرفت المآذن والأجراس قبل أن تُفرض عليها لغة الدم. تفجير مسجد فيها لا يمكن قراءته خارج هذا السياق الرمزي. إنه محاولة لقتل ما تبقى من فكرة التسامح والعيش المشترك، لا أكثر.
من يفجر مكان عبادة لا يمكن أن يكون مؤمناً بقضية، أيّاً كانت هذه القضية. لا وطن يولد من ركام أماكن العبادة، ولا حرية تُبنى على أشلاء المصلين، ولا عدالة تمر عبر فوهة عبوة متفجرة أو حزام ناسف. هذه حقيقة بسيطة، لكن يبدو أن البعض يصر على القفز فوقها باسم شعارات أكبر من وعيه وقدرته على التفسير والتبرير والإقناع.
كل الأديان، بلا استثناء، تجرّم الاعتداء على أماكن العبادة. وكل الأيديولوجيات، حتى أكثرها راديكالية، تسقط أخلاقياً حين تبرر قتل الأبرياء في أماكن العبادة، ولذلك فإن من يفجّر مسجداً ليس مجرماً في دين بعينه، بل هو مجرم في كل الأديان، وليس عدواً لطرف دون آخر، بل عدو للإنسان نفسه.
المؤلم أن بعض من يتقمصون دور القيادة لا يترددون في تبرير هذا النوع من الجرائم بلغة ملتوية، أو صمت مريب، أو بيانات لا يمكن أن تقنع أحداً. القائد الحقيقي لا يبحث عن مبررات للجريمة، بل يقف أمامها ويسميها باسمها، يقول إنها جريمة. القائد الحقيقي يعرف أن أول اختبار للشرعية الأخلاقية هو حماية المدنيين، لا استخدامهم وقوداً في معركة لا يفهمونها، ولا اختاروها، ولا حددوا مكانها أو تاريخها.
تفجير مسجد ليس رسالة قوة، بل علامة ضعف. ليس دليلاً على الحسم، بل على العجز. من لا يستطيع إقناع الناس بفكرته يلجأ إلى إخافتهم. ومن يعجز عن بناء مشروع يدمر ما بناه الآخرون عبر قرون. هكذا تدار الفوضى، وهكذا ينتج الخراب.
الخطير في هذا المسار أنه لا يتوقف عند مسجد واحد، ولا عند مدينة واحدة. حين يُكسر هذا الخط الأحمر يصبح كل شيء مباحاً، الكنيسة التالية، المدرسة التالية، السوق التالية، دار العجزة التالية. وحين تُشرعَن الجريمة مرة تتكاثر، وتفقد المجتمعات مناعتها، وتدخل في دوامة لا تنتهي من الانتقام المتبادل، وتُزهق الأرواح تحت شعارات تبدو في ظاهرها قوية، وهي في باطنها هزيلة.
ما نحتاج إليه اليوم ليس مزيداً من الخطابات الغاضبة، بل شجاعة أخلاقية واضحة تقول: لا لتفجير دور العبادة، لا لاستباحتها، لا لتوظيف الدين في القتل، ولا لتبرير الجريمة باسم أي قضية. هذه الـ«لا» هي الحد الأدنى من الإنسانية، ومن دونها لا معنى لأي حديث عن مستقبل، أو دولة، أو حضارة.
حمص، وكل مدينة في الدنيا تشبهها، لا تحتاج من يفجر أماكن عبادة أهلها، بل من يعيد إليها صوت الحياة، ويعيد للعبادة معناها الحقيقي كي تكون جسراً بين الإنسان وربه، لا فخاً للموت. أما من اختار طريق التفجير فقد اختار أن يكون خارج كل قضية، وخارج كل دين، وخارج كل شرف، أياً كان الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، فتفجير المساجد ليس «جهاداً»، بل هو عمل لا يمكن وضعه إلا في خانة الدناءة والخسة وخيانة الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، وحملها الإنسان الظلوم الجهول.
إقرأ المزيد


