إيلاف - 11/28/2025 7:15:18 AM - GMT (+3 )
إنّ حسن مقاربة الظواهر يمكّننا من دقة المعالجة، ومن ربح الكثير من الوقت والجهد. فليس هناك ما هو أسوأ من معالجة الظواهر الاجتماعية من خلال الدوران في حلقة مفرغة.
وكما نعلم، فإن كل المجتمعات تعاني ظواهر اجتماعية ويبقى حجم الظاهرة هو الجدير بالانتباه أو إطلاق صيحة الفزع. مثلاً، لا يوجد مجتمع مهما كان حقوقياً ومتقدماً لا يعرف الجريمة والعنف وغيرهما من علل المجتمعات. غير أن حجم انتشار العنف والجريمة هو الذي يسترعي التوقف عنده باعتباره مسألة غير طبيعية، ولا بد من فهمه وتحديد أسبابه للتمكن من معالجته.
لقد ارتأينا اعتماد ملاحظة، وهي الأولى التي تخص ظاهرة العنف ضد المرأة، بخاصة وأن العالم انطلق أول من أمس (الأربعاء) في إحياء التظاهرة الدولية المتمثلة في الحملة الدولية لمناهضة العنف ضد المرأة التي تستمر إلى غاية يوم 10 ديسمبر (كانون الأول) الموافق لليوم العالمي لحقوق الإنسان. ومفاد ملاحظتنا الأولى، أن هناك أزمة في كيفية مناهضة العنف ضد المرأة: فالغالب على استراتيجيات المناهضة التصدي لمظاهر العنف، مع جهود متفاوتة الجدية من دولة إلى أخرى في حماية النساء ضحايا العنف. وهنا نسجل إهمال مسألة الأسباب المولّدة للعنف والتركيز على نتائج العنف ومظاهره، وهذا نعتبره خللاً يتسبب في خسارة الكثير من الوقت، ناهيك أن معالجة مثل هذه الظواهر المركبة والمعقدة تتطلب جهداً كبيراً في التنشئة الاجتماعية، يشترط بدوره زمناً اجتماعياً يطول الأجيال. فكل جهد يبذله المجتمع من خلال مؤسساته ومضامين قيمية نقدية جديدة إنما هو يندرج ضمن أكثر العمليات الاجتماعية زمنية وصبراً، ونقصد بذلك: التغيير الاجتماعي.
فالملاحظ أن الاتجاه في غالبية البلدان يميل إلى بذل جهد في مجال حماية النساء ضحايا العنف، والتنافس حول توفير آليات الحماية التي أصبحت محددة على مستوى عالمي، وهناك تجارب متقدمة يتم اتباعها، وهنا نستحضر تجربة إسبانيا في مجال حماية النساء المعنَّفات. ويمكن حصر آليات الحماية في توفير خط ساخن لتلقي الشكاوى والتفاعل الفوري مع حوادث العنف ضد النساء إلى جانب تخصيص مراكز للإيواء وتمكين «المعنَّفات» من فرصة إتقان حرفة وبعث مشروع مورد رزق، وذلك بناءً على ما تؤكده الأرقام والإحصاءات من أن الغالب على ملمح النساء ضحايا العنف الهشاشة الاقتصادية.
وفي الحقيقة، وباعتبار تزايد ظاهرة العنف ضد النساء في مجتمعاتنا العربية وبشكل خاص في جائحة «كوفيد - 19»، فإن الدول العربية أصبحت تخصص حسب القدرة والإمكانات من ميزانياتها ما يمكّنها ولو نسبياً من النسج على منوال التجارب الملهمة في مجال حماية النساء ضحايا العنف. غير أن الملاحظ هو أن آليات الحماية تتطلب ميزانية كبيرة جداً لا تقوى على مجابهتها غالبية البلدان العربية والإسلامية، وتظل عملية الحماية منقوصة وتفتقد إلى آليات التكيف مع وضع المرأة المعنَّفة، بخاصة الأمهات اللواتي يرافقهن أطفالهن، في مراكز الإيواء مع ما يستوجبه ذلك من عناية نفسية واجتماعية وتربوية بأطفال المدارس. وإذا كان بإمكان الدول توفير الإقامة والإعاشة لمدة محدودة من الزمن، فإن التنقل وإيجاد حلول عملية للأم المعنَّفة وأطفالها ليس أمراً مضمون التحقق في ظل الأزمات الاقتصادية لدولنا، وتزايد المطالب الاجتماعية. كما لا يفوتنا أن العنف الزوجي يهيمن على أنواع العنف المسلط على النساء؛ ما يعني أن العدد أكبر بكثير من طاقة الدول على الحماية وتوفير آلياتها.
أيضاً، حتى في حال توافر الإمكانات، فإن الجهد الضروري المبذول في آليات الحماية يندرج في إطار واجب الدول في حماية النساء المعنَّفات ولا يصب في معالجة ظاهرة العنف.
لذلك؛ فإن هذه الظاهرة لن تعرف تراجعاً ملحوظاً إلا بالوقوف عند الأسباب الرئيسية ومعالجتها، وهي أسباب تكاد تنحصر في النسق الثقافي الذي من خاصياته الهيمنة الذكورية والتمييز بين الجنسين في الأدوار الاجتماعية، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع، وأيضاً الجانب التشريعي بما يعنيه من قدرة على تعديل السلوك الاجتماعي، حيث إن للقوانين دوراً كبيراً في تعجيل مسار التغيير الاجتماعي بتأطير السلوك بتشريعات رادعة.
أما التحليل المادي لظاهرة العنف ضد المرأة، فهو في الحقيقة لا يمكن إنكاره بالمرة، وليس صدفة أن تكون النساء اللواتي يعرفن هشاشة اقتصادية وفي حالة تبعية اقتصادية للرجل هن أكثر النساء عُرضة واستعداداً من ناحية الوضعية الاقتصادية ليكنّ مشروع ضحية عنف.
ولكن تناول التفسير المادي للظاهرة من ناحية الهشاشة الاقتصادية للنساء لا يخلو من انحياز لا يخدم موضوعية التفسير، ونعتقد أنه آن الأوان لتعميم التفسير المادي لممارسة العنف على الجنسين معاً: غالبية الرجال الذين يعنّفون زوجاتهم مثلاً هم يعانون أيضاً هشاشة اقتصادية ومعظمهم من ذوي الدخل المحدود أو في وضعيات بطالة وعدم استقرار مهني، ومن أهم مؤشرات ذلك نشير إلى موجات التسريح من المؤسسات التي حصلت أثناء جائحة «كوفيد - 19». ثم إن العلاقة بين ارتفاع ظاهرة العنف دولياً في فترة الحجر الصحي وارتفاع عدد العاطلين عن العمل ونسبة الفقر، ليست بعلاقة اعتباطية.
للقضاء على ظاهرة العنف يجب ما يلي: تحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين المقدرة الشرائية، وخفض معدلات الفقر والبطالة مع سنّ تشريعات تقضي على التمييز على أساس الجنس، ثم ترك بعض الوقت للنسق الثقافي كي يتأقلم مع المعطيات الاقتصادية والتشريعية الجديدة وحينها نكون قد انطلقنا في رحلة التعافي من العنف.
إقرأ المزيد


