رحلة قصيرة في عقل «حزب الله»
إيلاف -

من يشاهد محطّتي «المنار» و»الميادين» التلفزيونيّتين يظفر بفرص لا تُفوّت في التعرّف إلى العقل العميق لجمهور «حزب الله». وهذا ما لا صلة له دائماً بمواقف الحزب السياسيّة الفعليّة، المعلنة أو الخفيّة، وإن كان في وسعه، تبعاً للظرف، أن يعزّزها أو أن يعيقها. فهذا العقل، الذي بوشر بصناعته منذ نيّف وأربعة عقود، غدا أشبه بطبيعة ثانية تجد في الظروف الحادّة الأشدّ تطلّباً للتعبير وللمشاعر والانفعالات ما يستحضرها بكامل طاقتها. وأحد هذه الظروف مقتل القائد العسكريّ هيثم علي الطبطبائي الموصوف بـ «الرجل الثاني»، تتويجاً للمآسي الكبرى التي نزلت به خلال «حرب الإسناد»، خصوصاً منها مقتل زعيمه.

لقد حشدت «المنار»، وهي المحطّة التابعة للحزب، و»الميادين»، وهي حليفة له، أصواتاً كثيرة من الضيوف السياسيّين وغير السياسيّين، بمن فيهم المتّصلون هاتفيّاً للتعليق وإبداء الرأي. وفي حالة هؤلاء جميعاً كانت للصراخ التعبويّ حصّة الأسد، علماً بأنّ صراخاً كهذا قد يُراد منه تعبئة نفس المتكلّم قبل تعبئة السامعين.

فهناك، بين من تحدّثوا، سيّدة استنتجت، بعد استعراض سريع لسلسلة الضربات الإسرائيليّة، لا جدوى هذه الضربات، لأنّه «مهما حصل لنا فإنّنا لن نتغيّر». ورفع «عدم التغيّر» إلى فضيلة، ومن ثمّ عدم الاكتراث بما يكشفه الواقع وتحوّلاته، ليس بالأمر الصحّيّ، إلاّ أنّه يبقى ثابتاً من ثوابت الكلام. فالنائب الحزبيّ الذي استضافته «المنار» روى عن إحدى العائلات كيف أنّ الحفيد والجدّ، وبينهما الأب، آمنوا بالشيء نفسه وقاتلوا للهدف ذاته. ذاك أنّ الأجيال تتوالى والأزمنة تتغيّر في ما تبقى الأهداف والنوايا على حالها. وهذا ما يُفقد الزمن ومصطلح الجيل أيّ معنى قد ينطويان عليه. لكنّ سيّدة أخرى تمدّ هذه الاستمراريّة إلى ما وراء البشر الأحياء، فتعلن أنّ «الطفل في بطن أمّه يقول: لبّيك يا نصر الله».

بطبيعة الحال فالمقاربة الخرافيّة للعالم، التي لا تعترف بالتحوّلات، لا يسعها الاعتراف بالهزائم. ومن هنا تنبثق نظريّة «حزب الله» التي عمّمها على جمهوره من أنّ المقاومة «ورقة قوّة» ينبغي على الدولة الاستفادة منها، وهذا علماً بانكشاف تلك المقاومة إيّاها كورقة ضعف وإضعاف لأصحابها. مع ذلك فحين أراد رجل دين استضافته «الميادين» أن يضرب مثلاً على انتصارات المقاومة وجد أنّ الإسرائيليّين لم يعثروا في أرشيفهم على صورة ينشرونها لطبطبائي الذي قتلوه.

لقد أشاع الحزب، غير مرّة، وعلى ألسنة مسؤوليه، أنّه «يتعافى» و»يرمّم قدراته» و»يعزّز قوّته»، ولهذا، ولكونه «ورقة قوّة»، فهو ضدّ التفاوض مع الإسرائيليّين. وهكذا فالأمور في أحسن حال، ومَن يبحث عن تعبير واحد عن الحزن، في مناسبة يُفترض أنّها محزنة، لن يجده: هناك فقط لغة القوّة والانتصار التي مهّد لها الأمين العام الراحل بقوله: «إذا انتصرنا انتصرنا، وإذا استُشهدنا انتصرنا». وبالمعنى هذا، وبغضّ النظر عن الهزيمة الفعليّة وانعدام الخيارات، لا يستطيع الحزب، حتّى لو فرّ من النصر، أن لا ينتصر. وقبل «حزب الله» كان عبد الحليم حافظ قد وصف عبد الناصر بأنّ «النصر بيسعى إليه».

وتتحرّر مفاهيم الحرب والنصر والهزيمة من كلّ تحديد واقعيّ وملموس بعد طمأنة نعيم قاسم سكّانَ المستوطنات الإسرائيليّة، ونفي الحزب احتمال الردّ على مقتل الطبطبائي، هو الذي لم يردّ على مقتل الذين قُتلوا قبله. أمّا العبارة التي كرّرها أحد النوّاب من أنّ حزبه «في معركة شاملة مع العدوّ»، فالشمول فيها إنّما يلغي الأجزاء والمكوّنات. فالحزب سيبقى في معركة شاملة، إلاّ أنّها لا تشمل البرّ والبحر والجوّ، كما لا تشمل الردّ والانتقام، ولا تشمل اليوم والغد وبعد الغد. «فليبق العدوّ قلقاً من ردّنا»، على ما قال أحد قياديّيه.

والانعدام الفعليّ للحرب هو ممّا يفسّر اتّصال أحدهم بقناة «المنار» مطالباً الحزب بإلباس بيئته أحزمة ناسفة و»تفجير أنفسنا بالعدوّ الصهيونيّ». ذاك أنّ انسداد طريق العنف إلى العدوّ قد يشقّ للعنف طريقاً إلى النفس – نفس العنيف العاجز عن ممارسة عنفه.

وحدها غالبيّة الشعب اللبنانيّ العزلاء، التي تناشد الدولة أن تحميها، هي الخصم السهل الذي يُكال له من الشتائم ما لا يعوزه التأويل ولا يخالطه الالتباس. فالناطقون بلسان هذه الغالبيّة هم العملاء الذين «يشغّلهم الإسرائيليّ»، وهذا ما يشي بأنّ الاعتبار الداخليّ والأهليّ هو المهمّ في آخر المطاف. لكنْ إذا لم يكن التشهير موضع استغراب، فاتّهام الخصوم بالغباء والجهل هو المثير فعلاً للاستغراب بعدما كسر الحزب كافّة الأرقام القياسيّة في الغباء والجهل، وتبيّن، بما لا يدع مجالاً لأيّ شكّ، أنّ قدرته على التفكير لا تفوق قدرته على القتال.

وهنا تطالعنا عجرفة انتصاريّة تقضم التعاطف مع مظلوميّة «حزب الله» التي تتجبّر على هزالها وانكسارها بأكثر ممّا تتجبّر مظلوميّات أخرى أشدّ تواضعاً. ويبقى أنّ للعلاقة العنجهيّة التي طوّرها الحزب مع باقي اللبنانيّين، واختراعه المتواصل للانتصارات، دوراً كبيراً في تأسيس تلك العجرفة الجَهولة والمنفّرة.



إقرأ المزيد