لبنان والسيادة المنقوصة
إيلاف -

حاول رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي رسم ملامح سياسة جديدة تعيد تثبيت موقع الدولة في معادلة السيادة، وتفصل بين منطق الدولة ومنطق القوة، فشدّد على أن قرار السلم والحرب يجب أن يعود إلى الحكومة وحدها، وأن زمن الوصايات الخارجية قد انتهى. لبنان، كما قال، لا يمكن أن يستقر ما لم تُستعد حصرية السلاح، ومرجعية القرار الأمني والعسكري ضمن المؤسسات الشرعية.

في مقاربته الاقتصادية، ربط سلام بين الإصلاح والسيادة، مؤكداً أن أي خطة إنقاذ لن تنجح من دون استقرار سياسي وأمني، ولن تُستعاد الثقة ما دامت صورة لبنان مرهونة بسلاح متفلت، وقرارات متناقضة بين المؤسسات الرسمية والقوى المسلحة. حاول سلام أن يحافظ على توازن دقيق بين الخطاب السيادي والواقعية السياسية، فلم يهاجم «حزب الله» مباشرة، لكنه رسم حدود السلطة، سعياً إلى الدفع نحو استعادة القرار الوطني من دون تأجيج انقسام داخلي أو انفجار أمني.

كلام سلام بدا معلقاً بين الواقع والممكن، وظهرت الفجوة بينهما مع مواقف «حزب الله» المُكررة التي جاءت في الاتجاه المعاكس. فالحزب جدّد تمسكه بسلاحه وبحق المقاومة، ورفض أي نقاش حول نزعه أو ربطه بوقف إطلاق النار، عادّاً ذلك محاولة لانتزاع ورقة القوة الوحيدة التي تردع إسرائيل. بدا التباين واضحاً بين خطاب السلطة الذي يؤكد أن القرار في بيروت والدولة تحترم القرار «1701» وتعمل على تنفيذه، وخطاب الحزب وممارساته التي تثبت أن المعركة تُدار من الجنوب بقرار خلفه محور إقليمي متشابك. هذا التباين المتمادي يظهر جوهر الإشكالية: سيادة منقوصة بأبعادها العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تجعل الدولة عاجزة عن ترجمة خطابها إلى قدرة فعلية.

بداية يتجلى البعد العسكري لتحدي السيادة المنقوصة في عجز الدولة عن تنفيذ القرار «1701» منذ صدوره عام 2006 ولو ليوم واحد، ما أتاح للحزب ترسيخ حضوره الميداني، وتخزين السلاح والتدريب العسكري في الجنوب وخارجه، ليهيمن ويخوض حروباً آخرها «الإشغال والإسناد». لكن تحدي استعادة السيادة ليس عسكرياً فحسب، فـ«حزب الله» نجح في إنشاء اقتصاد موازٍ مستقل عن الدولة يقوم على شبكات تمويل وخدمات اجتماعية، أبرزها جمعية «القرض الحسن» التي تؤمّن السيولة لجمهوره خارج النظام المصرفي، ولم تستطع السلطة حتى اليوم إقفالها. وإذا صحَّت المعلومات التي تزامنت مع زيارة وفد الخزانة الأميركية إلى بيروت ومفادها تسرب مليار دولار إلى «حزب الله» خلال عام 2025 بعد اتفاق وقف العمليات القتالية، فيؤكد ذلك تهاوي رقابة الدولة المالية. هذا التمويل الخارجي ليس جديداً، لكنه أكثر خطورة اليوم مع دولة مفلسة، إذ يجعل الحزب أقوى من دولة عاجزة عن الحصول على مساعدات أقل بكثير من المليار دولار، ويمنحه قدرة على الصمود والتمكين، ما أفرز سيادة اقتصادية موازية للسيادة العسكرية.

ولا يقل البعد السياسي خطورة عن سابقيه، إذ إن إمساك الحزب بمفاصل الدولة من الأسفل إلى الأعلى، أفقدها دورها بوصفها ضابطة للتوازنات لتصبح طرفاً ضعيفاً داخلها. فالمجلس النيابي ممسوك بنفوذ يعطل التشريع، والحكومة مفخخة بالولاءات المتضاربة، ورئاسة الجمهورية تحاول مسك العصا من الوسط بين القوى الرسمية والحزبية والطائفية. ومنذ حقبة الوصاية السورية، تمدّد «حزب الله» داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية والأمنية والعسكرية، ولا تزال مفاعيل هذا التغلغل قائمة، وتعيق أي محاولة جدية لاستعادة القرار الوطني.

أمَّا الوجه الأعمق للصراع فهو الثقافي والاجتماعي، إذ إن الحزب لم يرسخ قوته بالسلاح وحده، بل عبر منظومة متكاملة من التعليم والرعاية والدين والإعلام مكنته من الإمساك ببيئته من الداخل، وتحويلها إلى قاعدة اجتماعية صلبة تدور في فلكه العقائدي والسياسي، لتتحول سيطرته إلى شكل من أشكال الهيمنة الرمزية التي تعيد إنتاج الولاء لا عبر الترهيب فقط، بل عبر الإقناع والانتماء، ما جعل السلطة عاجزة عن بناء ولاء وطني جامع.

في هذا المشهد، تبدو معركة استعادة السيادة في لبنان أعمق من مجرد استعادة قرار الحرب والسلم. فالأزمة لم تعد السلاح الخارج عن الدولة، بل باتت متجذرة في منظومة تمسك بمفاصل الاقتصاد والإدارة والثقافة والولاء الاجتماعي، وتُنتج واقعاً مركباً من السيادات المتوازية، عمادها احتكار تمثيل الطائفة الشيعية. فحتى لو استعاد مجلس الوزراء صلاحية القرار الأمني، تبقى السيادة منقوصة، ما دام القرار المالي مخترقاً، والقرار السياسي مقيداً، والتشريع مختطفاً والنسيج الاجتماعي مثقوباً وموزعاً بين ولاءات متناقضة. حاول سلام إعادة تعريف موقع رئاسة الحكومة بصفتها سلطة تفاوض لا تُدار، وطرح خطاباً سيادياً متماسكاً يرفض الاستتباع، لكنه للأسف لا يغامر بالمواجهة.

التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن في استعادة قرار الحرب والسلم فقط، بل في كيفية إعادة بناء الدولة بوصفها مرجعية وحيدة للشرعية والثقة والانتماء. فلبنان لن ينهض من أزمته إلا حين تتحول السيادة من شعار سياسي إلى ممارسة مؤسساتية، ومن توازن قُوى هش يحتمي بالتوافق إلى مشروع وطني يعيد للدولة وحدها حق القرار الوطني وتنفيذه. وإلا ستبقى السيادة شعاراً فوق مؤسسات مفرّغة من معناها.



إقرأ المزيد